17 يناير2017
هل استخدم السودان السلاح الكيميائي في دارفور في العام الماضي؟
بقلم جوناثان لويب: مستشار أول لشؤون الأزمات يعمل مع منظمة العفو الدولية. وكان يُجري البحوث حول النزاع بدارفور، كما دعم جهود حل النزاع على مدى العقد المنصرم.
بعد ما يقرب من 14 عامًا من الحرب، جاء آخر أعمال العنف التي دمرت منطقة دارفور بغرب السودان في صورة هجوم عسكري واسع النطاق في العام الماضي بمنطقة جبل مرة، وهي مجموعة من القمم البركانية مساحتها 5000 كيلومتر مربع، وتحوي زهاء 1500 قرية؛ وكان أغلب الضحايا من المدنيين في العملية التي استغرقت تسعة أشهر، والتي كان يُفترض أن تستهدف عناصر إحدى جماعات المعارضة المسلحة. ونجحت الحكومة في الخرطوم، بشكل كبير، في التستر على هذه الانتهاكات؛ كما مُنع الصحفيون والمحققون المعنيون بأوضاع حقوق الإنسان والعاملون الإنسانيون، وحتى قوات حفظ السلام الدولية من الوصول الحقيقي إلى المنطقة.
بيد أن منظمة العفو الدولية، منذ بداية فبراير، وبعد مرور شهرٍ من بدء الهجوم، أجرت تحقيقًا عن بُعد، وعثرت على أدلة دامغة على ارتكاب جرائم حرب، بل ربما جرائم ضد الإنسانية-والتي شملت أدلة على القصف العشوائي للمدنيين، والقتل الغير مشروع للمدنيين، واختطاف النساء واغتصابهن، ونهب قرى وتدميرها بالكامل، والنزوح القسري لما يُقدر بربع مليون مدني. وكشف التحقيق عن أدلة موثوقة تشير بوضوح إلى أن قوات الحكومة السودانية استخدمت أسلحة كيميائية أثناء حملتها.
ومنذ نشرنا لتقرير سبتمبر، طالبت منظمة العفو بأن يتخذ أعضاء “اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية” إجراءً بشأن المزاعم حول استخدام السلاح الكيميائي، فلهذا السبب وُجدت الاتفاقية في الأساس. ولكن بينما أعرب عدد من الدول عن الاهتمام بالنتائج التي خُلص إليها، فلم يتخذ أي بلدٍ خطوات رسمية للضغط من أجل الحصول على مزيد من المعلومات؛ وذلك لأن الأدلة المتوفرة جُمعت عن بُعد، ومن ثم، لم يكن ممكنًا أن تُجمع عينات مادية، مما لا يجعلها، على نحو لا يمكن إنكاره، الأدلة المثلى. ومع أن الحكومة السودانية حالت دون الدخول إلى المنطقة المنكوبة، فلا ينبغي أن يكون غياب إجراء التحقيق الميداني عذرًا لأن لا نفعل شيئاً. وكانت المعلومات المفصلة لدى منظمة العفو الدولية موثوقة بما يكفي لأن يخلُص خبيران مختلفان، عمل كلٌ مستقلاً عن الآخر، إلى احتمالية استخدام أسلحة كيميائية في جبل مرة. وإن التقاعس في مواجهة هذه النتائج يبعث بإشارة سيئة إلى حكومة السودان، ويهدد الوضع الذي تحظى به اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية نفسها.
تحليل الأدلة. أجرت منظمة العفو الدولية محادثات عبر الهاتف، مع 57 شخصًا من سكان جبل مرة- 47 مدنيًا، وعشرة من عناصر جماعة المعارضة المسلحة، “جيش تحرير السودان”- جناح عبد الواحد، وقدموا روايات مباشرة عن تعرضهم لمُرَكَّبات خاصة بالأسلحة الكيميائية المزعوم استخدامها. كما أجرت منظمة العفو مقابلات مع العديد من الجهات المقدمة للرعاية التي، بصورة عامة، تقدم الرعاية لبعض المئات الذين نجوا من الهجمات الكيميائية المزعومة. ويصفوا ما لاحظوه من علامات على أجساد مرضاهم، وهو على الأغلب ما لاحظوا بأنه السبب المباشر لوفاة الضحايا. كما قدم كلٌ من الناجين والهيئات المقدمة للرعاية أدلة مستمدة من صورٍ فوتوغرافية لإصابات ظاهرة للعيان.
ووفقًا لما قاله هؤلاء الشهود، فإن مُرَكَّبات الأسلحة الكيميائية المشتبه باستخدامها في إطلاق القنابل والقذائف الصاروخية، حيث انبعث منها دخان كريه الرائحة، أو غازًا غالبًا ما كان لونه يتغير، بعد انبعاثه. كما وصف الناجون ومقدمو الرعاية مجموعة مختلفة من الأعراض التي أُصيب بها الضحايا خلال الساعات، والأيام التي تلَت تعرضهم للمُرَكَّبات. فتضمنت القيء والإسهال الحاديْن، المصحوبيْن في أكثر الأحيان بدم؛ وإصابات جلدية حادة كالتقرحات والطفح والتساقط الجلدي؛ وإصابات في العين كتغير لون العينين، وجحوظ العينين، والإفراز المستمر للسوائل، وضعف البصر أو فقدانه تمامًا؛ والسعال الحاد، وصعوبة التنفس، الذي غالبًا ما ينجم عنه الاختناق. كما كانت حالات الإجهاض المصحوب،ة بكميات غير طبيعية من الدم، أمرًا مألوفًا فيما ورد من شهادات؛ كما زُعم أن العديد من الضحايا فقدو الوعي جراء تعرضهم للمُرَكَّبات الكيميائية. وذكر شهود حدوث تغيرات كبيرة في رائحة نَفَس الضحايا، وكذلك في لون بولهم وبرازهم ورائحتهما. كما عانى الكثير منهم من انقباضات عضلية لا إرادية، ونوبات ارتجاف، وتصلب للجسم، والتي غالبًا ما أودت بحياة المصابين بها.
وقام خبيرا الأسلحة الكيميائية كيث وارد – من جامعة “جورج ميسون”، وجينيفر ناك – من جامعة “ميرسر”، بتقييم هذه الأدلة، بصورة منفصلة، وتقديمها لمنظمة العفو الدولية. وفُرضت بعض القيود الواضحة على تحليلهما نتيجة طبيعة التحقيق عن بُعد، التي لم تسمح بأن يُجري أطباء محترفون، متاح لهم التقنيات الطبية الحديثة، فحوصًا مباشرة للضحايا. كما لم يتوفر لهما عينات من التربة، أو عينات من بقايا الأسلحة، أو عينات فيسيولوجية كعينات الدم أو البول؛ التي يستلزمها الحصول على ما يثبت على نحو قاطع وقوع تعرض للمُرَكَّبات الكيميائية. وعوضًا عن ذلك، استندا فيما خلصا إليه إلى ما أُتيح من المقابلات المفصلة مع الناجين ومقدمي الرعاية، وعينة صغيرة من صورٍ– التُقطت غالبيتها بعد أيامٍ أو أسابيعٍ من الهجوم -لجروحٍ ظاهرة، كثيرًا ما تُركت دون علاج.
وعقب تحليلهما للوصف البيئي للهجمات، إلى جانب الأدلة الفوتوغرافية، والأعراض والعلامات السريرية الواردة في الشهادات، وإجرائهما لمناقشات مستفيضة مع أطباء على معرفة بالآثار التي تُخلفها مُرَكَّبات الحرب الكيميائية والبيولوجية، أثبت كلا الخبيريْن أن جروح هؤلاء الضحايا ليست مجرد نتيجة لتأثير أسلحة حربية تقليدية متفجرة أو حارقة؛ وأن وقوع إصابات للعديد من الضحايا لا يمكن تفسيره سوى بأنهم تعرضوا لمُرَكَّبات كيميائية، تم إطلاقها بواسطة أسلحة استُخدمت في شن الهجمات.
واستُمدت بعض الأدلة الدامغة من شهادات العديد من الضحايا الذين نجوا من الهجمات التي شُنت باستخدام القنابل والقذائف الصاروخية والرشاشات، دون وقوع أي إصابات لهم، ثم أصيبوا بجروح بعد ساعات أو أيام لاحقة. وغالبًا ما أصيبوا بهذه الجروح في مناطق كانت مغطاة بالملابس، خلال شن الهجمات، مما يشير إلى أنهم تعرضوا لمواد كيميائية، وأن إصابتهم بالتسمم، ربما كانت نتيجة كيماويات تخللت إلى مجرى الدم. فالإصابات الناجمة عن الأسلحة التقليدية لا تقع في مناطق تكسوها الملابس دون أن تتمزق، الأمر الذي لم يرد في أي شهادة.
كما قام الخبيران بتحليل بعض التفاصيل في الصور، وكذلك وصف العلامات والأعراض؛ بغية تحديد الكيماويات أو فئة الكيماويات التي استُخدمت في شن الهجمات. وعلى الرغم من أن غياب الأدلة المادية جعل الوصول إلى نتائج قاطعة أمرًا مستحيلاً، خلُص كلا الخبيريْن على نحوٍ منفصل إلى النتيجة نفسها، وهي أن العلامات والأعراض السريرية لكثير من الضحايا تتفق إلى حد كبير مع التعرض لفئة من الحرب الكيميائية تُسمى المُرَكَّبَات المسببة للحويصلات أو البثور، التي تضم اللويسيت، والخردل الكبريتي، والخردل النيتروجيني، وفوزجين أوكسيم.
ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن كلاً من الخبيريْن أفاد أن الكثير من الملاحظات التي وردت لم تكن تلك التي عادةً ما تقترن بالتعرض للمُرَكَّبَات المسببة للحويصلات. لذا، فإن من المحتمل أن ضحايا هذه الهجمات تعرضوا إلى كيماويات أُخرى، من دون المُرَكَّبَات المسببة للبثور أو إلى جانبها. وربما كان الضحايا تعرضوا للمُرَكَّبَات المسببة للقيء أيضًا، مما قد يفسر الأعراض الفورية كالغثيان والقيء، بالإضافة إلى المُرَكَّبَات المسببة للحويصلات، على سبيل المثال، والتي قد تُفسر الأثار طويلة المدى، كالتقرح الذي لا يندمل، والسعال المستديم. واستعرض الخبيران مجموعة مختلفة من المُرَكَّبَات شائعة الاستخدام في الحرب الكيميائية -وكذلك عناصر كالفوسفور الأبيض، والغاز المسيل للدموع، والسموم البيولوجية – ولكنهما لم يخلصا إلى استخدام أيٍ منهم.
المطالبة بالتحرك. وفي معرض التعليق على هذه النتائج، دعت منظمة العفو الدولية أعضاء “اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية” إلى الضغط على السودان لتقديم أجوبة بشأنها. وعلى وجه الخصوص، طلبنا إلى أعضاء الاتفاقية بأن يتقدموا بطلبٍ رسمي إلى “المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية،” الهيئة التي تراقب تنفيذ الاتفاقية، للحصول على “توضيحٍ” من الخرطوم حول تلك المزاعم. ويُوصى بالتقدم بمثل هذا الطلب كخطوة أولى (وإن كان غير إلزامي)، بموجب المادة 9 من الاتفاقية، والتي تسمح لأي دولة وقّعت على الاتفاقية، بطلب زيارة “تفتيش مفاجئ” إلى الموقع بشأن أي انتهاكات يُزعم ارتكابها من قِبل أي دولة طرف بالاتفاقية، ويُمكن رفض هذا الطلب فقط في حالة تصويت ثلاثة أرباع أعضاء المجلس التنفيذي، البالغ عددهم 40 عضوًا، على عدم قبوله.
وبينما نفت حكومة السودان، أحد الموقِعين على الاتفاقية، المزاعم الواردة، ورفضت تقرير منظمة العفو الدولية؛ جاءت ردود الأعضاء الآخرين فاترة نسبيًا. فصرحت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا علنًا أنهما تأخذان التقرير على محمل الجد وتُجريا فحوصًا للأدلة؛ وأدلت بلدان أخرى بتصريحات مماثلة دون أن تنشرها علنًا. واتخذ مسؤولون مُختارون من العديد من البلدان مواقفًا أكثر فعالية، من بينهم 32 مشرّعًا أمريكيًا قاموا بكتابة رسالة إلى وزير الخارجية جون كيري، داعين واشنطن إلى طلب إجراء التحقيقات. ولم يتقدم أي بلدٍ بطلبٍ رسمي بعد حتى الآن.
ومن المنظورٍ التاريخيٍ، فإن الإحجام عن المبادرة بإجراء تحقيقٍ أمرٌ لا يدعو إلى الدهشة. فيبدو أن مستوى المعيار الذي يدفع إلى البدء في إجراء “تفتيش مفاجئّ، ارتفع للغاية، على الرغم من أنه متروك، من الناحية النظرية، لتقدير أعضاء الاتفاقية الأفراد. فمنذ أن دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 1997، لم تكن هناك دعوة واحدة لإجراء مثل هذا التفتيش. فعلى سبيل المثال، لم تنفذ الدول الأعضاء آلية التحقيق، استجابةً للمزاعم التي وردت مؤخرًا حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا. وعوضًا عن ذلك، قاموا باستحداث “آلية مشتركة للتحقيق” بين “الأمم المتحدة” و”منظمة حظر الأسلحة الكيميائية”-الإجراء الذي استلزم قرارًا من مجلس الأمن.
وبناءً على المناقشات التي دارت بين منظمة العفو الدولية، وأعضاء الاتفاقية الذين يزعمون أن التقرير موثوق، وأنهم يبحثون بجدية إمكانية طلب “توضيحٍ،” فإن السبب الذي يُعزى له عدم اتخاذ أي خطوات رسمية، بموجب المادة 9، هو غياب الأدلة المادية. إلا أن في الوقت الذي لا يُمكن إنكار ضرورة وجود الأدلة المادية لإثبات وقوع استخدام للأسلحة الكيميائية بشكلٍ قاطع؛ فإن غيابها ليس عذرًا لعدم إجراء أي تحقيق، ولا سيما بالنظر إلى حقيقة الأوضاع الجارية في السودان، ومصداقية الأدلة التي وثقت بالفعل.
فعلى سبيل المثال، كُلفت البعثة الدولية لحفظ السلام في دارفور تكليفًا مشتركًا من قِبل “مجلس الأمن الدولي”، و”مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي،” باستخدام القوة لحماية المدنيين، وللإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان. ووقعت البعثة مع الخرطوم اتفاقية وضع القوات العسكرية، مما يجيز لها حرية التنقل بلا قيود في أنحاء دارفور، بما في ذلك المناطق التي وقعت بها الهجمات الكيميائية المزعومة. إلا أن البعثة لم تتمكن حتى الآن من تحقيق مهمتها في حماية المدنيين بجبل مرة، أو من الإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في المنطقة، بما في ذلك الاستخدام المزعوم للأسلحة الكيميائية؛ وذلك لأن الحكومة حالت دون أي سُبل لدخول المنطقة. ويواجه السكان المحليون، الذين يحاولون دخول بعض الأجزاء من جبل مرة أو الخروج منها، وكذلك أيضًا من يحاولون إبلاغ المحققين بالمعلومات، مخاطر جسيمة، تودي بحياتهم في أغلب الأحيان. ومع رفض تنفيذ آلية التحقيق المشمولة في المادة 9، فإن دول العالم، في حقيقة الأمر، تكافئ حكومة السودان لخلقها وضعًا يجعل جمع الأدلة المادية أمرًا أقرب للاستحالة.
بيد أنه ثمة أدلة دامغة وموثوقة بالفعل، تشير إلى استخدام قوات الحكومة السودانية للأسلحة الكيميائية على نطاقٍ واسع، أثناء هجومها العسكري في جبل مرة. وينبغي أن تحث هذه الأدلة، على أقل تقدير، الدول الأخرى على أن تطلب إلى السودان تقديم توضيح رسمي؛ وإذا لم يحدث ذلك، فإن المجتمع الدولي لن يقوم فقط بتشجيع حكومة السودان على انتهاك “اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية” من خلال إفلاتها من المساءلة، بل سيدعو أيضًا إلى طرح التساؤلات حول مصداقية الاتفاقية ذاتها.