برنستون لايمان يستقيل من مهامه كمبعوث خاص للولايات المتحدة في السودان Princton Lyman Resigns as U.S. Special Envoy for Sudan
اريك ريفز 31/12/2012
[ Princeton Lyman Resigns as U.S. Special Envoy for Sudan: A Grim Legacy
Eric Reeves, 31 December 2012
http://www.sudanreeves.org/?p=3704 ]
بكثير من الاحتفاء المصطنع من جانب الرئيس اوباما, استقال المبعوث الخاص للولايات المتحدة للسودان, برنستون لايمان, من منصبه هذا الشهر – دون أن يقدم أسباباً لهذه الاستقالة, ودون أن يحقق نجاحاً يُذكر في مهمته التي كلف بها. فهو إذ يغادر للتقاعد, يترك وراءه مئات الآلاف من المدنيين المعرضين لخطر المجاعة, في جبال النوبة/جنوب كردفان, والنيل الأزرق, وكلتاهما من مناطق السودان المحاصرة, والتي تتعرض لحملات الإبادة الوحشية من قبل قوات وميليشيات نظام الخرطوم. ولازالت دارفور مسرحاً لإبادة مريعة بطريق الاستنزاف, بعد أن أرجعها لايمان وآخرون في إدارة اوباما إلى الموقد الهامد للدبلوماسية, على الرغم من كل الخطب البلاغية المتقدة لاوباما حول الإبادة الجماعية في دارفور, خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 2008. على مستوى السودان الكبير – السودان وجنوب السودان – يقترب الوضع من حافة تجدد الحرب. فقد اندلع العنف بداية هذا العام على طول الحدود المتنازع عليها في أغنى المناطق بالنفط, وكاد أن يجر البلدين إلى حرب واسعة النطاق.
ولا زالت منطقة ابيي المتنازعة – التي احتلتها قوات الخرطوم مبكراً في عهد لايمان – منطقة خطرة وقابلة لإشعال نزاعات جديدة, وكذلك المنطقة المعروفة بالميل 14 على ضفاف نهر كيير في شمال ولاية بحر الغزال (غرب ابيي). كما ظلت تقريباً كل القضايا التي خلفها استقلال جنوب السودان في يوليو 2011, بلا حلول – وهي القضايا التي تضمنتها على وجه الخصوص إتفاقية السلام الشامل لعام 2005 – وتهدد هذه القضايا باندلاع المزيد من العنف, بل وبحرب شاملة. هذا بالإضافة إلى أن اقتصادي البلدين, السودان وجنوب السودان, يعانيان من حالة انهيارخطير, خلقت ضغوطاً هائلة على القيادات السياسية والعسكرية في كل من جوبا والخرطوم. فقد رفضت الخرطوم الالتزام بإتفاق حول تصدير النفط, تم التوقيع عليه بإشراف الإتحاد الافريقي, في 27 سبتمبر 2012 – وتبناه مجلس الأمن والسلم الافريقي فيما بعد. هذا بينما ينذر الانكماش الاقتصادي الناتج عن فقدان عائدات النفط بمخاطر عديدة على كل من البلدين, وبخاصة ما تحدثه معدلات التضخم العالية من أثر كبير, يهدد بنسف الاستقرار فيهما.
وكان لايمان باشر مهامه في بداية عام 2011, في وقت بدأت فيه الأوضاع في الغليان بشأن قضية ابيي. وقد كان الفشل في حل هذه المشكلة مؤشراً لفشل أكبر, لكل من إدارتي بوش واوباما, في متابعة تطبيق إتفاقية السلام الشامل, التي وقعتها الخرطوم مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. فعلى الرغم من أن المسائل المتعلقة بوضع ابيي حُلت بصورة نهائية – في كل من بروتكول ابيي لإتفاقية السلام الشامل, وفي القرار “النهائي والملزم” للمحكمة الدائمة للتحكيم (2009) – إلا أن لايمان ومسؤلي إدارة اوباما ظلوا يدفعون الجنوب لتقديم المزيد من “التنازلات” للخرطوم, حول ابيي. وقد نظر النظام إلى هذه المسألة – عن حق – كعلامة على الرضا, واستنتج أنه يمكنه احتلال ابيي عسكرياً دون تبعات تُذكر. وهذا هو ما حدث, على وجه التحديد, في 21/5/2011, على الرغم من شواهد عينية على حشود عسكرية تعدها الخرطوم, سبقت الحدث بشهور. وقد ترتب على هذه العملية نزوح أكثر من 100000 من السكان من دينكا نقوك, ولازالت الأغلبية العظمى من هؤلاء نازحة في جنوب السودان, بعد عام ونصف من الواقعة.
ولم يكن من قبيل الصدفة, في أعقاب الإدانات الباهتة التي خرج بها لايمان والمسئولون الدوليون الآخرون, أن تشن الخرطوم, بعد اسبوعين, حملة عسكرية ضخمة أخرى في جنوب كردفان, هذه المرة ضد المجموعات القبلية الافريقية في جبال النوبة. وعلى الرغم من أن المقصود, علناً, كان هو القوات المحلية المتمردة, إلا أن آثار مجزرة الخرطوم وقعت, في الأساس, على المدنيين من النوبة. بالنسبة لسكان كادوقلي, عاصمة جنوب كردفان, كان القتل, والتعذيب, والاغتصاب, والاعتقالات الجماعية هي السمة المميزة لشهر يونيو 2011. فقد أكدت صور الأقمار الصناعية, وإفادات شهود عيان كثيرين, وجود مقابر جماعية كافية لدفن عشرات الآلاف من الجثث, نبهت إلى كثير منها تقارير فريق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المقيم في كادوقلي خلال ذلك الشهر القاتم من العنف, الشبيه بما جرى في رواندا. وبرغم الأدلة الدامغة, عبر لايمان عن شكوكه, وأنكر الوقائع, , استناداً على معلومات استخباراتية للولايات المتحدة, كانت على الأقل في حالة واحدة, إما خاطئة أو مفبركة.
ولا زال هذا الاعتداء الوحشي للخرطوم متواصلاً حتى اليوم, في صورة قصف جوي مروع على نطاق جبال النوبة, بما في ذلك التدمير المنهجي للمخزون الغذائي والحقول الزراعية. والنتيجة هي أن مئات الآلاف من السكان يتضورون جوعاً حتى الموت, بينما نزح آخرون يصل عددهم إلى مئات الآلاف أيضاً, (معظمهم إلى الجنوب) – مع ذلك ترفض الخرطوم السماح بوصول أي مساعدات إنسانية.. فعلى الرغم من إتفاق مشترك بين جامعة الدول العربية والإتحاد الافريقي والأمم المتحدة, للسماح بدخول منظمات العون الإنساني – 2 فبراير 2012 – ترفض الخرطوم بإصرار قبول الإتفاق إلا في أكثر صوره تجرداً (وقعت المجموعة المحلية للثوار, الحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير السودان – قطاع الشمال, فوراً على الإتفاق, لحماية المدنيين). فالحقائق على أرض الواقع تقول إنه لا تصل النوبة لا الإمدادات الغذائية, ولا الأدوية, ولا تتوفر لهم الخيام ولا الأغطية, إلا ما يدخل إلى المنطقة بطرق خفية, وغني عن القول إن ما يدخل لا يتناسب, حتى بصورة بعيدة, مع حجم الأزمة الإنسانية. وقد حدثت كل وقائع هذا الرفض البربري للسماح بدخول الغذاء, في فترة عمل لايمان.
ويعود جزء من المشكلة إلى أن لايمان رفض في البداية تصديق العديد من التقارير التي رصدت ما كان يحدث في جنوب كردفان, وسخر من الأقوال حول تكرار الإبادة الموثقة جيداً للنوبة في فترة التسعينات, قائلاً: “سكان جبال النوبة قادرون على القتال دفاعاً عن أنفسهم, ولا أعتقد أن الشمال يستطيع طرد مجموعة كبيرة من السكان على أساس إثني… هذه هي الحقائق على الأرض. ثانياً, أنا لست متأكداً من أن هذف الحكومة ….”
غير أن كل من الإدعائين تم الرد عليه بوقائع مؤكدة على الأرض, والآن وبعد ثمانية عشر شهراً من ذلك الحديث, وبينما يودع لايمان منصبه, لم يتأمن دخول المساعدات الإنسانية, بينما نزح مئات الآلاف من السكان – ولا زالوا ينزحون – بفعل ممارسات الخرطوم, كما تقول الأمم المتحدة. كذلك بدأت, في الأول من سبتمبر 2011, حملة وحشية شبيهة للإبادة في ولاية النيل الأزرق المجاورة. وتأكدت, على نطاق النيل الأزرق, وقائع القصف الجوي المتواصل للمدنيين ومزارعهم, والقتل الجماعي, والاغتصاب, وتدمير القرى – وجميعها ممارسات معهودة في حروب الخرطوم ضد الثوار. هنا أيضاً رفضت الخرطوم دخول كل المساعدات الإنسانية. وقد كشفت المقابلات التي أجريت مع اللاجئين الفارين وقائع مرعبة توفر في مجملها أساساً للإدانة بجريمة الإبادة الجماعية. فقد فرّ حوالي 300000 مدني من جبال النوبة والنيل الأزرق إلى جنوب السودان واثيوبيا, ونزح مئات الآلاف من الذين لم يتركوا البلاد, في معظم الأحوال بدون غذاء. ومع دخول موسم الجفاف, يتجه عشرات الآلاف من السكان الآن نحو الجنوب – على الأقل من لديهم بقية طاقة لقطع المسافة. ولكن الكثيرين يموتون في أماكنهم أو خلال الرحلة الطويلة إلى معسكرات اللجوء.
حدث كل هذا في فترة عمل المبعوث الخاص للولايات المتحدة في السودان, برنستون لايمان, الذي سيتقاعد الآن.
وبينما كانت هذه الكارثة تنمو على طول الحدود, وفي النيل الأزرق وجبال النوبة, واصل لايمان سياسة “فك ارتباط” دارفور بالاهتمامات الرئيسية لسياسة الولايات المتحدة في السودان, خاصة فيما يتعلق باعتبار السودان دولة داعمة للإرهاب. وكان الجنرال المتقاعد الطيار سكوت قريشن, السلف عديم الكفاءة لبرنستون لايمان, قد أعلن أنه ليس هناك شئ, بخلاف السياسة, وراء هذا الوصف للسودان. وكان يبدو أنه كان قانعاً بتجاهل الحقيقة القائلة إن الخرطوم حولت السودان لمعبر للأسلحة القادمة من ايران والمتجهة لحماس في غزة, وقد وضعت كثير منها في عروض قاتمة حديثاً. إلا أن لايمان فشل ببساطة في مخاطبة هذه المسألة.
وكان لايمان قد برر “فك ارتباط” درافور (السياسة التي أعلن عنها مسئولون في الإدارة, بهذا المصطلح, في شهر نوفمبر 2010), بناءاً على إتفاق بلا معنى تم التفاوض حوله في قطر. غير أن “وثيقة الدوحة للسلام في دارفور”, والتي تم التوقيع عليها في يوليو 2011, لم تفعل شيئاً لتحسين الأمن الإنساني, أو فرص وصول المساعدات الإنسانية, وذلك في منطقة تعرضت لاعتداءات وحشية لعقد كامل من الزمان. على العكس من ذلك, تدهورت كل من الأوضاع الأمنية وفرص وصول الإغاثة, منذ التوقيع على الإتفاقية. ولم يكن ذلك مفاجأة لأحد: فقد رفضت تقريباً كل مجموعات المجتمع المدني الدارفوري, والفصائل المسلحة, وبمرارة, وثيقة الدوحة, والتي لم توقع عليها إلا الخرطوم وفصيل انقسامي صغير (حركة التحرير والعدالة), التي نشأت نتيجة لطبخة من معمر القذافي والجنرال قريشن. ولكن حتى في الوقت الذي اعترف فيه دان سميث, الدبلوماسي في إدارة اوباما الذي ظل يعمل حتي وقت قريب في ملف دارفور: أن الخرطوم لم تلبي أياً من الالتزامات الأمنية, أو الخاصة بإعادة التعمير, التي جاءت في الوثيقة, ظل لايمان يدفع بالإتفاقية بوصفها خطة للسلام قابلة للتطبيق. لقد كان ذلك أمراً مخاتلاً وذا أثر بالغ في تخريب فرص السلام الحقيقي, أو على الأقل فرص تحسين الوضع الأمني, ووصول الإغاثة.
هناك مسألة تحتل موقعاً مركزياً في الرؤية السياسية للايمان, وهي إصرار شائه على “المساواة الأخلاقية” بين الخرطوم والجنوب, إذ يُحمل كل منهما مسئولية متساوية عن فشل المفاوضات, وعن العنف عبر الحدود. غير أن الإسهام الأخلاقي والسياسي والتفاوضي للبلدين, هو ببساطة ليس واحداً – ليس فيما يتعلق بابيي, أو بالمفاوضات حول تخطيط وترسيم الحدود, أو فيما يتعلق بدعم المتمردين في أراضي البلد الآخر. والدليل الأوفي على ذلك هو أن الخرطوم هي وحدها التي لديها سلاح طيران, تستخدمه في القيام بغارات جوية بلا هوادة على المدنيين, والأهداف الإنسانية على نطاق السودان, وكذلك على المناطق الحدودية مع جنوب السودان. والأولان هما انتهاك فاضح للقانون الدولي, بينما تشكل الأخيرة أعمال حربية.
ويبدو أنه كان امراً ملائماً للايمان عدم التطرق لأي من هذه الحقائق الواضحة.
وأخيراً يبدو أنها “المساواة الأخلاقية” الملائمة للايمان, تلك التي أسست لمطلبه الغريب في العام الماضي, عندما قال: “نحن لا نرغب في إسقاط نظام [الخرطوم], ولا في تغييره. نحن نريد أن نرى النظام يقوم بإصلاحات عبر إجراءات دستورية ديمقراطية”. فكرة أن هذا النظام القمعي الوحشي يستطيع أن يجري إصلاحات عبر “اجراءات ديمقراطية”, هي فكرة سخيفة. إذ ليس هناك دليل تاريخي واحد يدعم هذا الزعم. في الحقيقة تعمل الحركة السياسية الشمالية الأقوى (الجبهة الثورية السودانية, التي تضم الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال), تعمل بإصرار على تغيير النظام, وتنظر الجبهة الثورية لموقف الولايات المتحدة, كما عبر عنه لايمان, على أنه مثير للسخرية, وذو دوافع شائهة.
في الواقع, وكما هو الحال مع كثير من جوانب سياسة الولايات المتحدة للسودان, فإن هذه أيضاً لاتعدو أن تكون ورقة توت لحسابات ومصالح جيواستراتيجية لا ترحم, على مستوى القرن الافريقي, وحول الفائدة المزعومة للخرطوم في مكافحة الإرهاب. هذا, للأسف, هو جوهر السياسة الحالية للولايات المتحدة في
السودان, بينما يجد الملايين من الناس أنفسهم في أوضاع شديدة الخطورة, بسبب هذا القصور الأخلاقي. فإن هذا الإرث القاتم هو الذي سيتركه وراءه برنستون لايمان.
اريك ريفز, البروفيسور بكلية سميث, هو مؤلف الكتاب الذي صدر حديثاً بعنوان: المساومة مع الشيطان: تاريخ ارشيفي للسودان الكبير, 2007 – 2012. www.CompromisingWithEvil.org