كل يوم يمر يزداد الأمر وضوحًا، اذا لم تُذعن جوبا لرغبات الخرطوم الابتزازية حول مجموعة من القضايا فالنظام سيقوم بتسوية الأمور عسكريًا كما فعل في أبيي منذ عام تحديدًا. إلا أنه وفي ظهور واضح للّامبالاة، فان المجتمع الدولي الذي يزعم أنه مهتم بالسلام بين السودان وجنوب السودان يرفض سماع ما يقوله النظام في الحقيقة.
وتظهر هذه الّامبالاة بوضوح في القرار الضعيف لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الصادر في الثاني من مايو والذي يتضمن مطالبة بوقف لاطلاق النار كان قد تم بالفعل انتهاكه عدة مرات من قبل الخرطوم وفي خارطة الطريق التي وضعها الاتحاد الأفريقي والتي قبلتها الخرطوم “بصورة مؤقتة” (رغم مساندتها من قبل مجلس الأمن ) بزعم أن خارطة الطريق تلك “مليئة بأوجه القصور والانحياز الصريح إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان”، كما وتظهر في الإدانات العنيفة المبنية على سوء اطلاع جغرافي حول “الاجتياح” الجنوبي لهجليج على طول الحدود الشمالية الجنوبية المتنازع عليها، لما يمثل ذلك من جهد مضلل لاستيعاب ادعاءات الخرطوم الإقليمية المغرضة (أبريل 10 – 20).
فشل الاستيعاب واضح ايضًا في الإدانات السطحية الحالية المتزايدة لقصف الخرطوم المستمر لاهداف مدنية داخل الأراضي الخاضعة للسيادة الجنوبية بالرغم من أن هذه التفجيرات مقصودة من قبل الخرطوم بهدف الضغط السياسي والعسكري على جوبا. ولعل أبرز مايشير الى قصر النظر السياسي هو رفض مجلس الأمن القيام بشيء أكثر من “حث” الخرطوم على السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى أولئك الجياع في النيل الأزرق وجبال النوبة، حيث استمر قصف المدنيين لما يزيد عن أحد عشر شهرًا. و اذا لم يسمح النظام بدخول المساعدات الإنسانسة في وقت قريب، فإن المجتمع الدولي يكون قد اودى بحياة عشرات الآلاف جوعًا في حين تواصل الخرطوم تكتيكات مكافحة التمرد والإبادة الجماعية.
رواية مشوهة
بالرغم من خطابها العدواني العنيف الذي يتناقض بحدة مع ما نسمعه بشكل أساسي من قيادة الجنوب ( اقرأ تعليقات دينج ألور الأخيرة أدناه) يتواصل تصوير الخرطوم على أنها فقط الوجه الشمالي لجنوب يتم تصويره الآن بشكل مضلل على أنه متعنت وعدواني وطائش. وبالرغم من إظهار ضبط النفس الغير اعتيادي أمام الاستفزازات العسكرية المتكررة والموثقة رسميًا على مدى العام ونصف العام الماضي، تعتبر جوبا مسؤولة بشكل متساوٍ عن الأزمات العسكرية الحالية على طول منطقة الحدود. ورغم غياب أي دليل على أن جوبا تمول الحركة الشعبية لتحرير السودان/جيش الشمال بمساعدات عسكرية كبيرة، إلا أن المجتمع الدولي يساوي بين ما يعد في معظمه مساعدات صغيرة نسبيًا من الطعام والوقود – والتي يمكن أيضًا استخدامها لأغراض إنسانية – وما تقدمهالخرطوم من مساعدات مؤكدة على شكل أسلحة ثقيلة وذخائر إلى الميليشيات المتمردة في الجنوب، اضافة الى تزويد قوات الميليشيات القاتلة بالمواصلات والدعم اللوجيستي والمأوى في شمال السودان. ورغم هذه الحالة من عدم التناسق الجوهري، لا يكف المجتمع الدولي عن مطالبة “كلا الطرفين بالتوقف عن دعم جماعات المعارضة” في إقليم الآخر – وهي طريقة لتفادي التفاهم حول الآثار المترتبة من استخدام الخرطوم المتعمد لهذه الميليشيات الوحشية ما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.
ومن المفيد هنا النظر بدقة إلى لغة وتصرفات الخرطوم الاخيرة، بالإضافة إلى الخطوط العريضة الناشئة التي تبشر بنهاية قاتمة للصراع والتي تمثل حاليًا السياسة الكبرى للنظام في مواجهته مع الجنوب. حيث أن هناك في الواقع أنماط وأولويات واضحة في هذه الاستراتيجية الكبرى، بالرغم من التحويرات الخطابية في بعض الأحيان. ويتم التعرف على الأولوية الأولى من خلال الحاجة الملحة لمواجهة الخطر العسكري المتنامي المتمثل في جيش الشمال التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان، تحت قيادة الجنرال عبد العزيز الحلو. وهناك دليل قوي على أنه بعد حوالي سنة من القتال، فإن القوات النظامية والميليشيات التابعة للخرطوم الموجودة في جنوب كردفان قد تعرضت لضربات موجعة وخسائر هائلة في الأسلحة والذخيرة (وهذا سبب يجعل جوبا غير متحفزة لتقديم المساعدة العسكرية إلى الجيش الشعبي-الشمالي). وتتميز التقارير الواردة بالاتساق، وتكشف عن أن القوات المسلحة السودانية (SAF) محبطة وتعاني من خطر فقدان السيطرة على مساحة اكبر من جنوب كردفان.
ما تريد الخرطوم القيام به هو جعل هذه الكارثة العسكرية المحتملة القضية الدبلوماسية الرئيسية في المفاوضات مع جوبا. والنظام في الواقع يطالب جوبا باستخدام نفوذها المزعم مع قيادة الحركة الشعبية-الشمالية لإنهاء الصراع في ما بات يسمى بـ “جنوب السودان الجديد” للخرطوم (خاصة وأن الخرطوم قد دأبت بشكل متزايد على الإشارة إلى الجيش الشعبي-الشمالي كـ “جيش أجنبي“). هذا ما قصده الرئيس عمر البشير عندما صرح قائلًا أنه “في المفاوضات المقبلة، إذا لم نقم بحل المشكلات الأمنية … لن يكون هناك أي حديث بشأن أية جزئية أخرى – لا نفط، لا تجارة، لا جنسية، لا أبيي، ولا أي ملف آخر”. وما قصده البشير بـ “المشكلات الأمنية” هو الخطر العسكري الذي يشكله الجيش الشعبي-الشمالي – ورفض جوبا قبول مزاعم الخرطوم بشأن حدود 1956 بين الشمال والجنوب التي لا يمكن الدفاع عنها. باختصار، يصر النظام على أنه سيتم الحفاظ على السلام فقط في حال توافر شرطين:
(1) أن يتم جعل جوبا نقطة النفوذ الدولي في إجبار قيادة الحركة الشعبية-الشمالية على الإذعان. حيث أن الخرطوم ترفض التفاوض مباشرة مع الحركة الشعبية-الشمالية رغم أن هناك اتفاقية إطارية تُلزم النظام بالقيام بهذا تحديدًا. وقد وقعت الخرطوم على هذه الاتفاقية في الثامن والعشرين من يونيو 2011 في أديس أبابا تحت رعاية الاتحاد الأفريقي. ومما لا يثير الدهشة أنه، بعد ثلاثة أيام – وباستخدام لغة تشير إلى “التطهير العسكري” لجبال النوبة – تخلى البشير عن الاتفاقية تحت ضغط من الجنرالات في الخرطوم التي تزداد عدائيتهم.
يتجاهل قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسهولة هذا التصريح الذي أدلى به رأس النظام، و”يقرر” ببساطة أن “حكومة السودان والحركة الشعبية-الشمالية يجب عليهما التعاون الكامل مع الاتحاد الأفريقي ]الوسطاء[ ورئيس الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، من أجل الوصول إلى تسوية تفاوضية على أساس الاتفاقية الإطارية الموقعة بتاريخ الثامن والعشرين من يونيو 2011 بشأن الشراكة السياسية بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية-الشمالية والاتفاقيات السياسية والأمنية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (§3). ويبدو أن مجلس الأمن إما أنه ليس على دراية بتراجع البشير عن اتفاقية الثامن والعشرين من يونيو، أو أنه ببساطة اختار التظاهر بأن ذلك لم يحدث مطلقًا.
لكن الخرطوم لم تنس، وأعلنت بمزيد من الوضوح:
“أعلن مجلس قيادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي يرأسه الرئيس عمر حسن البشير مساء يوم الأربعاء [9 مايو] أنه لا يوافق على العناصر الواردة في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأخير بشأن المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان-الشمالية (SPLM-N). (سودانتربيون، 9 مايو، 2012)
بعد هذا الاجتماع لمجلس القيادة، نفى وزير الخارجية علي كارتي “تمامًا” الفقرة المتعلقة بالمفاوضات مع الحركة الشعبية-الشمالية. لدى النظام خبرة كبيرة في تجاهل قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (أكثر من 20 قرارًا بشأن دارفور وحدها)، وليس هناك مؤشر على أن رد المجلس على التعنت الحالي من قبل النظام سيكون أكثر قوة. لكن تجاهل استخفاف الخرطوم لن يؤدي إلى نتائج جيدة؛ وفي الحقيقة، كما هو الحال عدد كبير من المناسبات السابقة، فإن رفض تحمل المسؤولية عن “المطالب” و”القرارات” و”المناشدات” يشجع النظام على الاعتقاد بأن المجتمع الدولي ببساطة لن يقوم بمحاسبته، أيًا كانت وحشية الأفعال التي يقوم بها- بما في ذلك قطع المساعدات الإنسانية عن مئات الآلاف من المدنيين المتضورين جوعًا.
(2) تطالب الخرطوم كذلك – كشرط مسبق في الحقيقة – أن يتم رسم حدود المناطق الحدودية المتنازع عليها على أساس تحريف النظام لحدود عام 1956. وإذا أردنا دليلًا لتوضيح إلى أي مدى كانت رؤية الخرطوم المشوهة شنيعة، فإننا نحتاج فقط إلى إلقاء نظرة على المثال المعبّر في قطاع كافيا كنجي في أقصى الغرب من ولاية غرب بحر الغزال. إن “القطاع” هو نتاج لاثنين من الحدود المختلفة: الحدود في وقت الاستقلال في عام 1956 (المحددات الجغرافية الثابتة عبر اتفاقية السلام الشاملة)، وحدود أخرى رسمتها الخرطوم في عام 1960 والتي تجتاح بشكل حاد جنوب حدود 1956 في رادوم (تصفح الخرائط في الصفحات 8 – 9 و الصفحات 168 – 169 من The Kafia Kingi Enclave: People, Politics, and history in the north-south boundary zone of western Sudan (قطاع كافيا كنجي: الناس، والسياسة، والتاريخ في المنطقة الحدودية بين الشمال والجنوب من غرب السودان) معهد Rift Valley ، 2010). باختصار، لقد انتقل كافيا كنجي بشكل تعسفي إلى الشمال من قبل النظام العسكري لإبراهيم عبود (نظام الجنرال جعفر نميري تراجع عن وعده بالعودة إلى حدود 1956).
تصر الخرطوم بشتى الطرق – رغم الشروط الواضحة لاتفاقية السلام الشاملة – على أن كافيا كنجي جزء من الشمال، وتصرّح بأن أي وجود للجيش الشعبي يُعد “غزوًا” ومن ثم فإنه يمثل إحدى “القضايا الأمنية” التي يشير إليها البشير في قوله: “في المفاوضات المقبلة، إذا لم نقم بحل المشكلات الأمنية … لن يكون هناك أي حديث بشأن أية جزئية أخرى – لا نفط، لا تجارة، لا جنسية، لا أبيي، ولا أي ملف آخر”.
إن قيام الخرطوم بإعادة تعريف الحدود بشكل عدواني متزايد هو سبب العداء الحاد تجاه قرار مجلس الأمن، والذي تم قبوله في الأصل فقط “بشكل مبدأي” وقامت الخرطوم الآن بتخفيضه إلى مستوى نصيحة لا صلة لها بالموضوع. ويعد أكثر تعليقات البشير تعبيرًا ما نقلته وكالة رويترز، الخرطوم في 10 مايو: “البنود التي نريد أن ننفذها، سوف ننفذها. وما لا نريد تنفيذه، لن ننفذه. لا مجلس الأمن، ولا مجلس السلم والأمن (التابع للاتحاد الأفريقي)، ولا العالم كله يستطيع إجبارنا على تنفيذه”.
ليست هذه المرة الأولى التي يُبدي فيها البشير آراءً قوية حول قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: فبالنسبة لقرار 2003، الذي يعيد السماح بانتشار قوات الأمم المتحدة/الاتحاد الأفريقي في دارفور ويفوضها حماية المدنيين، صرّح البشير بكل جرأة: “يمكنهم أن يلقوا بالقرارات الجديدة في أي مكان”، مجددًا تهديداته بطرد كل من تسول له نفسه تنفيذ قرار 2003” (سودانتربيون، 13 أكتوبر 2011). ويذكرنا تقرير رويترز الإخباري في 10 مايو أيضًا أن الخرطوم تنظر إلى قادة الجنوب على أنهم “حشرات”، وهو نذير شؤم يذكّر بالاحتقار العنصري الذي أدى إلى الإبادة الجماعية في رواندا: “تعهد البشير أن يتعامل بقسوة مع جنوب السودان، التي وصف حزبها الحاكم بأنه “حشرات”. إننا نقول لهم إذا كنتم تريدون درسًا آخر، فسوف نعطيكم درسًا ثانيًا وثالثًا لأنكم (حكومة جنوب السودان) لا تفهمون”.
في تصريحه بأن نظامه سوف “ينفذ فقط البنود التي يريد تنفيذها”، يعترض البشير بشكل خاص على جهود مجلس الأمن في التوصل إلى فض اشتباك القوات على طول الحدود. وكما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية من الخرطوم (10 مايو 2012)، “ألزم قرار الأمم المتحدة السودان وجنوب السودان بسحب القوات بعيدًا عن حدودهما المتنازع عليها [ ] ، لكن الخرطوم قالت أنها لا تستطيع الالتزام بذلك حتى تكون هناك اتفاقية حدودية”. لكن بالطبع كانت الخرطوم، وليس جوبا، من رفض على مدى السنوات العديدة الماضية الدخول في جهود حسن النية لرسم وتعيين الحدود الشمالية/الجنوبية. وحيث أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وبقية المجتمع الدولي فشلا في جعل ترسيم/تعيين الحدود أولوية من الأولويات، فإن عليهما الآن الرجوع إلى حدود لا تعترف بها الخرطوم. إن هذا الفشل يقوّض “قرار” مجلس الأمن (بموجب سلطة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة )الذي يطالب الخرطوم وجوبا “بشكل غير مشروط بسحب جميع قواتهما إلى الجانب الآخر من حدود كل منهما”.
إن التقرير الإخباري الوارد من وكالة الأنباء الفرنسية (الخرطوم، 5 مايو) هو احد التقارير الإخبارية القليلة التي تربط بين هاتين القضيتين اللتين تلعب بهما السياسة التي تنتهجها الخرطوم في الرد على قرار مجلس الأمن: “تصر ]الخرطوم[ على أن “عدوان” جنوب السودان يتواصل في شكل احتلال مباشر لمناطق أخرى متنازع عليها بطول الحدود، وأيضًا بمساندة المجموعات المتمردة داخل السودان. وفي خطابها إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، كررت السودان مرة أخرى ادعاءها بأن قوات جنوب السودان تحتل ثلاثة نقاط بطول حدود دارفور”. وبالطبع فإن الأبرز من بين هذه “النقاط الثلاث” هي كافيا كنجي (الخرطوم تذكر على وجه الخصوص كافن دبي ومدينة كافيا كنجي، واللتان تقعان داخل قطاع كافيا كنجي). ولا تزال الخرطوم تدعي أن الوجود الجنوبي في قطاع يقع بشكل واضح داخل شمال السودان، هو أمر يرقى إلى حد “الاحتلال”. هذا يوضح بشكل تام كيفية تعريف الخرطوم لـ “القضايا الأمنية” في الحقيقة.
الأمثلة الأخرى ليست على نفس الدرجة من الأهمية مثل كافيا كنجي (التي تتمتع برواسب معدنية وموارد أخرى واعدة، خاصة النحاس)، لكنها جميعًا محكومة بنفس المنطق الابتزازي من قبل النظام: “إما أن ننجح في تسوية قضايا الحدود أو أننا سنعلن أن “أمننا” مهدد وسوف نرد عسكريًا”. سوف يكون المبرر بالطبع هو “الدفاع عن النفس”. وإلى أن يقوم المجتمع الدولي بشيء أكثر من إصدار قرارات تحذيرية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإلى أن يشترك بشكل فعال في الضغط على الخرطوم لقبول الأشياء التي لا تزال حتى الآن مجرد “مناشدات”، سوف يستمر هذا النمط على طول الحدود، حيث تبقى 20% من الحدود غير محدّدة، ونسبة شاسعة أكبر لم يتم ترسيمها.
مرة أخرى، بما أنه لم تصدر أية استجابة دولية على هذا الانتهاك المشين الواضح لشروط اتفاقية السلام الشاملة بالنسبة لترسيم الحدود، فإن هذا يشجع النظام على الاعتقاد ان بإمكانه التصرف بشكل مماثل في المناطق الأخرى التي يحصل فيها نزاع حدودي. وتعد أبيي مثالًا صارخًا على أن ما لا يستطيع النظام إنجازه من خلال المفاوضات، يكون على استعداد تام لإنجازه عسكريًا.
هجمات عسكرية جوية على أهداف مدنية
خاصة في ضوء الصراع العسكري الأخير في المناطق الحدودية، لم تقم بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان سوى بجهد بسيط جدًا للتأكيد في الوقت المناسب على وجود هجمات جوية على أهداف مدنية وعسكرية في أراضٍ خاضعة لسيادة الجنوب، بما في ذلك قصف مدينة بانتيو، عاصمة ولاية الوحدة. وفي حين تواجه بعثة الأمم المتحدة عقبات وعوائق بالتأكيد، ينبغي عليها أن تجعل من إثبات الهجمات الجوية أولوية كبرى للموارد التي لديها. بخلاف ذلك، سوف تواصل الخرطوم إرسال المتحدث الرسمي العسكري باسم الجيش “الصوارمي خالد” ليصرح بكذب مفضوح، “نحن نؤكد بشكل كامل على أنه لا توجد لدينا طائرات ولا عمليات قصف قامت بالهجوم داخل أراضي جنوب السودان، حتى قبل شهر مضى. هذه مجرد اتهامات” (رويترز ]الخرطوم[، 5 مايو 2012).
في الواقع، أثبتت بعثة الأمم المتحدة العديد من الهجمات أكثر مما صرحت به الأمم المتحدة بشكل علني، ويجب أن نسأل بدورنا لماذا قررت الأمم المتحدة عدم نشر نتائج البعثة. من الصعب ألا نستنتج أن رفض نشر نتائج التحقيقات التي تثبت الهجمات الجوية هو أمر وراءه دوافع سياسية – وهو جزء من نموذج أكبر يتم تناوله في هذا التحليل.
جدير بالذكر ما صرّحت به اليوم مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان نافي بيلاي من أنها “أصيبت بالحزن والغضب” جراء غارات القصف التي اخترقت أمر وقف إطلاق النار الصادر عن الأمم المتحدة” وكالة الأنباء الفرنسية، 11 مايو، 2012). لكننا نلحظ أيضًا في تصريحاتها لمحة من الحذر الزائد والشك ذا الدوافع السياسية الذي أدى إلى قيام بيلاي بالإزالة المتعمدة لتقرير الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بشأن الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها قوات الخرطوم في كادوقلي وجنوب كردفان (يونيو 2011). واليوم تكتفي بيلاي بالقول أن “الهجمات المتعمدة أو المتهورة على المناطق المدنيةيمكن،استنادًاإلىالظروف،أنترقىإلى مستوى الجريمة الدولية”.
لماذا تستخدم بيلاي هذه الكلمات الرقيقة في حين أنها تعلم تمامًا أن كثيرًا من التفجيرات، بما في ذلك الذي وقع في مخيم ييدا للّاجئين، هي انتهاكات واضحة لقانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي؟ إنها تقر بأن الخرطوم قد شاركت في “قصف عشوائي دون مراعاة لوجود مدنيين يعيشون هناك”، إلا أنها تستخدم لغة من نوع “يمكن، استنادًا إلى الظروف…” —- حتى لو تم إثبات هذه الظروف أكثر من مرة بالتفاصيل الدامغة. مرة أخرى، من الصعب ألا نفطن إلى وجود اعتبارات سياسية هنا — اعتبارات غير ملائمة تمامًا لمفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.
بالفعل، كيف يمكننا فهم معنى ادعاء بيلاي المنافي للعقل في أغسطس 2011 أنه “في حين تتوافر الكثير من المعلومات المزعجة القادمة من المنطقة (جنوب كردفان)، إلا أننا للأسف لسنا في موضع يتيح لنا إثباتها”؟ لقد تم إثبات “المعلومات” من خلال مقابلات لا تحصى مع أشخاص ناجين من الجرائم الوحشية، والتي أجراها صحافيون ومنظمات حقوقية؛ لقد تم إثباتها من قبل العديد من التقارير الرسمية من مشروع القمر الصناعي الحارس؛ وتم إثباتها، بالتفصيل، من قبل فريق حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي كان قد أعد التقرير الذي قامت بيلاي بتحريفه لاحقًا في مؤتمرها الصحفي بمجلس الأمن. وكما ذكر مراسل الأمم المتحدة كولم لينش في ذلك الوقت، كان هناك تشابه غريب بين هذا الرد وبين رد الأمم المتحدة السابق تجاه العنف ضد المدنيين أثناء قيام الخرطوم بالاستيلاء العسكري على أبيي:
“تصريحات الأمم المتحدة تتبع نمطًا يقلل من التجاوزات السودانية” في الشهر الماضي، قام مسؤولون بالأمم المتحدة في نيويورك بتخفيف حدة مسودة دولية أدانت السودان بالمشاركة في ممارسات كانت “ترقى إلى التطهير العرقي” في منطقة سودانية ساخنة أخرى، منطقة أبيي الحدودية. لكن مسؤولو الأمم المتحدة في نيويورك أسقطوا الادعاء الذي يشير إلى وقوع تطهير عرقي، وفقًا لمصادر الأمم المتحدة.( فورين بوليسي، 4 أغسطس 2012 ]”لماذا تخفف الأمم المتحدة من نقدها للسودان؟”[)
تدرك بيلاي كذلك، أو يجب أن تعلم بالتأكيد — استنادًا إلى تقارير حقوق الإنسان التي لا تحصى، والرسائل الإخبارية الواردة من المنطقة، وفريق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الموجود في جنوب كردفان في يونيو 2011 — أن الخرطوم قامت في الأساس بتدمير الاقتصاد الزراعي في جبال النوبة في جنوب كردفان بلا هوادة. لقد تركت هجمات القصف — باستخدام “قاذفات قنابل” من طراز أنتونوف، والطائرات العسكرية النفاثة، ومروحيات الهليكوبتر — شعب النوبة بلا طعام مطلقًا، مما أدى إلى النمو المتسارع لعدد كبير من اللاجئين في جنوب السودان.
لماذا لا تتحدث بيلاي بصراحة عن هذه الحملة الوحشية – بشكل مستمر، وبقوة، وبتمثيل واضح للجرائم الدولية التي تشتمل عليها هذه الهجمات؟ لماذا لا تتحدث بصراحة عن الجرائم ضد الإنسانية المتجسدة في الرفض المتعمد والمحسوب من قبل الخرطوم لإدخال الطعام والإغاثة الإنسانية لشعب النيل الأزرق والنوبة؟ هل قررت الأمم المتحدة أن “تفصل” جنوب كردفان والنيل الأزرق من الجهود الدولية من أجل تفادي عودة الحرب بين الشمال والجنوب؟ هل نحن نشاهد تكرارًا لما قامت به إدارة أوباما من “فصل” دارفور من قائمة القضايا الكبرى في السياسة السودانية؟ (مقتبسات من تقرير الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بشأن الهجمات الجوية على المدنيين في جنوب كردفان، تم تسريبها في أوائل يوليو 2011 ولا تزال متاحة، وتظهر كملحق أدناه).
يجب أن نفهم نظام الخرطوم جيدًا وهو يقترب من الذكرى الثالثة والعشرين لاستيلائه على السلطة بانقلاب عسكري (يونيو 1989) – الذكرى الثالثة والعشرين للإجهاض المتعمد لفرصة السودان الكبرى في عقد اتفاقية سلام منذ الاستقلال في 1956. لكن إذا حكمنا من خلال تشخيص مصلحة النظام والخداع الكامن فيما ذُكر، وبفشلنا في التصرف وفقًا لما نعرفه، فإن هذه المعرفة بالنظام ستظل غير كافية لتقديم ردود سياسية مناسبة.
وجهة النظر من الجنوب
هنا من المفيد الأخذ في الاعتبار المغزى المختلف لتعليقات حديثة جدًا لدينج ألور، وزير شؤون مجلس الوزراء بجمهورية جنوب السودان: “قال ألور أن الهجمات الجديدة المزعومة من قبل حكومته (في جوبا) لم تؤثر على التزامها باستئناف المحادثات مع السودان بشأن القضايا الشائكة الخاصة بتصديرات النفط، والأمن، وترسيم الحدود بين البلدين، وقضية الجنسية، وهي القضايا التي لم يتم حلها منذ أصبحت جنوب السودان آخر شعوب العالم حصولًا على الاستقلال في العام الماضي. وقال:”نحن على استعداد للتقدم خطوة باتجاه المفاوضات، لا أحد يريد الحرب، نحن لا نريدها، المجتمع الدولي لا يريدها، والمنطقة لا تريدها”. وقال ألور أن جنوب السودان كانت تنتظر من رئيس جنوب أفريقيا الأسبق ثابو مبيكي، رئيس اللجنة رفيعة المستوى للاتحاد الأفريقي المكلفة بحل النزاعات بين الخرطوم وجوبا، أن يتصل رسميًا بكلا الطرفين من أجل استئناف المحادثات في تاريخ محدد”.
وواصل ألور القول:”لقد جعلت خارطة الطريق التي وضعها الاتحاد الأفريقي من بين أولوياتها حل النزاع على النفط. إنها أولوية لكل الأطراف، لنا، ولحكومة السودان، وللمستثمرين وللاتحاد الأفريقي. نحن ملتزمون بالمفاوضات ومناقشة كل شيء”. (رويترز (جوبا/الخرطوم)، 10 مايو 2012).
والى ان يصبح هناك حل دولي متسم بالعزيمة وحُسن الاطلاع لوزن الالتزامات النسبية تجاه السلام من جانب جوبا والخرطوم، فإن الميل نحو الحرب سيظل قائمًا. وإذا حكمنا من خلال التعليقات الأخيرة الصادرة عن الأطراف الفاعلة إقليميًا ودوليًا، بما في ذلك الدبلوماسيين المفترض أنهم “مطلعون” (الذين عادة ما يتحدثون بشكل غير رسمي)، فإننا بعيدون، بعيدون حقًا عن التوصل إلى مثل هذا الحل.
ملحق: مقتبسات حول قصف المدنيين من تقرير الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (2011)
بعثة الأمم المتحدة في السودان (UNMIS)
تقرير بعثة الأمم المتحدة بشأن موقف حقوق الإنسان أثناء العنف في ولاية جنوب كردفان بالسودان (يونيو 2011)
8. في السادس من يونيو، شنت القوات المسلحة السودانية قصفًا جويًا وكثفت هجماتها الأرضية على مناطق يسكنها مدنيون في بلدتي أم دورين وتالودي. فر العديد من المدنيين من المدينتين وذهبوا إلى اللجوء في جبال النوبة. وقد توافد المدنيون المصابون جراء القصف إلى المستشفيات في كادوقلي. تم فرض قيود على حركة المدنيين مرة أخرى في الشرق في بلدتي هيبان وكاودا، حيث أدت الحواجز التي أقامتها القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي من الشمال والجنوب إلى منع السكان من مغادرة المدينة. وفي مدينة قادوقلي، تم تحذير السكان في منطقة كاليمو التي يسكنها الكثير من عناصر الحركة الشعبية؛ تم تحذيرهم من قبل كل من القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي لإخلاء المنطقة. وفي وقت متأخر بعد الظهر، قامت القوات المسحلة السودانية بقصف غرب المدينة بغزارة في المساني واستمر ذلك حتى الصباح الباكر من يوم 7 يونيو. وقد ذكر السكان في منطقة كاليمو أن القوات المسلحة السودانية كانت توجه قصفًا عشوائيًا إلى المنازل التي كانت تشتبه في اختباء عناصر الجيش الشعبي بها. كانت هناك أيضًا تقريرات أن القوات المسلحة السودانية قامت بعمليات تفتيش لكل منزل على حدة وكانت تحرق المنازل بشكل منظم لأنصار الجيش الشعبي/الحركة الشعبية المشبته فيهم.
12. استمر الوضع الأمني في التدهور من 9 يونيو وما بعده مع وصول تعزيزات إضافية للقوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي والتي قامت بتوسيع نطاق القتال إلى بلدات أخرى. وقد أدى القتال إلى انسحاب عنصر الجيش الشعبي لوحدة التفتيش المشتركة من كادوقلي. في هذه الأثناء واصلت القوات المسلحة السودانية عمليات قصف جوي يومية وهجمات في بلدات كادوقلي، والدلنج، ورشاد، وهيبان، وكاودا، وتالودي، وأم دورين في عمق جبال النوبة حيث كان السكان المدنيون قد وجدوا ملجئًا لهم. انخفض معدل القصف الجوي بعد 14 يونيو لكنه استمر رغم أنه أصبح أقل حدة وكثافة. بالرغم من ذلك، استمر الإبلاغ عن وقوع إصابات بين المدنيين في مناطق كادوقلي، وأم دورين، وأم سرديبا، وهيبان، وكاودا، والدلنج، وسالارا، حيث حوصر العديد من المدنيين نتيجة للقتال. كما تلقت بعثة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقاريرًا عن عمليات اختطاف واعتقالات واحتجازات وعمليات إعدام للمدنيين في جميع أنحاء منطقة كادوقلي. وفي 30 يونيو، عندما كان يجري إعداد هذا التقرير، لاحظت البعثة أن عمليات القصف الجوي لا تزال مستمرة، مع استمرار تبادل المدفعية بين القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي، فضلًا عن قصف القوات المسلحة السودانية والميليشيا، وتفتيش كل منزل للبحث عن النوبيين ومؤيدي الحركة الشعبية، واستمرت انتهاكات حقوق الإنسان.
39. منذ اندلاع النزاع، قامت القوات المسلحة السودانية بعمليات قصف جوي يومي في جبال النوبة وفي عدة بلدات وقرى يسكنها النوبيون. وقد كانت آثار هذا القصف مدمرة على شعب النوبة، خاصة المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. وقد أسفرت عن خسائر كبيرة في الأرواح، وتدمير الممتلكات، وتشريد أعداد كبيرة. وتلقت بعثة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان صورًا لجثث متفحمة ومشوهة لمدنيين، بعضها قُطع إلى نصفين، بما في ذلك النساء والأطفال.
40. ابتداءً من 5 يونيو، قامت القوات المسلحة السودانية بعمليات قصف جوي يومي في كادوقلي وكاودا والدلنج وتالودي وأم دورين وأجزاء أخرى من الدولة يسكنها النوبيون بما في ذلك هيبان وكاودا وجلود وكودو وقرشي. كثيرًا ما يبدأ هذا القصف من وقت مبكر من المساء في حوالي الساعة السادسة مساءً ويستمر حتى الفجر. وقد استهدفت عمليات القصف أيضًا منشآت مدنية مثل مهابط الطائرات. وفي 14 يونيو أفاد أفراد من بعثة الأمم المتحدة من موقع فريق كاودا أن القوات المسلحة السودانية شنت غارات جوية على مهابط الطائرات والمناطق القريبة من مباني بعثة الأمم المتحدة مما أدى إلى حدوث ضرر بالمباني الواقعة داخل موقع الفريق. وأدى القصف إلى جعل مهبط الطائرات غير قابل للاستخدام وأعاق المنظمات الإنسانية من إعادة إمداد مخازنها من مدينة كادوقلي أو نقل/تدوير الفريق الموجود في هذه المناطق. وفي 25 يونيو، أسقطت غارة جوية للقوات المسلحة السودانية قنبلتين على مهبط جلود للطائرات، فقط على بعد 350 مترًا من إحدى المدارس، وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من موقع فريق بعثة الأمم المتحدة في جلود. واعتبارًا من 27 يونيو، وفقًا لتقارير بعثة الأمم المتحدة الواردة من كاوقلي وغيرها من مواقع الفريق، كانت القوات المسلحة السودانية تكثف من قصفها الجوي في جنوب كردفان على مواقع الجيش الشعبي. وبعد قصف القوات المسلحة لقرية شيفي في بلدة الدلنج في 8 يونيو، أفاد موقع فريق بعثة الأمم المتحدة في جلود أن مدنيَيْن قد قُتلا بالقرب من مواقع فريق البعثة. وفي 19 يونيو، أكد موقع فريق بعثة الأمم المتحدة في كاودا أن سبع قنابل سقطت في كاودا وضربت مناطق في الجنوب والشمال الغربي من موقع الفريق.
72. من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان في جنوب كردفان هي عمليات القصف الجوي وما يتبعها من خسائر كبيرة في أرواح المدنيين من النساء والأطفال وكبار السن، وعمليات القتل المستهدف، وتفتيش المنازل كلٍ على حدة، والتقارير الواردة عن وجود مقابر جماعية. ولم يتم إثبات صحة الادعاء باستخدام أسلحة كيماوية. إن المجتمع الدولي ليس بوسعه أن يظل صامتًا في مواجهة مثل هذه الهجمات المتعمدة من حكومة السودان ضد شعبها. وإذا لم يتوقف نهج القوات المسلحة السودانية الحالي خاصة عمليات القصف الجوي، فإن ذلك سيؤدي الى ابادة سكان النوبيين في جنوب كردفان.